
هل رأيت يومًا من يمسك بماله ظنًا أنه يحفظ به نفسه، فإذا به يهلكها؟
وهل ظننت أن البذل في سبيل الله يُفقر، بينما الإمساك يُغني؟
تأمل هذه الآية الكريمة التي تحمل توجيهًا ربانيًا عميقًا:
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]
آية تجمع بين الحث على الإنفاق والتحذير من التهلكة، لكن معناها أعمق مما قد يبدو في ظاهرها!
🟩 سبب نزول الآية: تصحيح فهم التهلكة
روى أبو داود (2512) والترمذي (2972) - وهو حديث حسن صحيح - عن أسلم بن عمران قال:
كان رجل من الأنصار يقاتل في صفوف العدو حتى دخل بينهم، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة!
فقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
"إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيَّه ﷺ، وأظهر دينه، قلنا لبعضنا: لو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾..."
📝 أي أن التهلكة ليست في الإقدام على الجهاد، بل في ترك البذل والعطاء والركون إلى الدنيا بعد جهاد طويل.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
"التهلكة ليست في الإقدام في الجهاد، بل في تركه أو في الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله."
وأضاف الطبري رحمه الله:
"التهلكة قد تكون أيضًا في الإسراف في الإنفاق بما يُؤدي إلى إهلاك النفس أو الأهل، فالوسطية مطلوبة."
🛡️ الإنفاق سبيل النجاة، لا الهلاك
الآية تدعو إلى الإنفاق في سبيل الله بكل معانيه: في الجهاد، الدعوة، مساعدة الفقراء، نشر العلم، والصدقة الجارية.
التهلكة قد تكون في البخل والإمساك، كما قد تكون في الإسراف الذي يُضر بالنفس أو الأسرة.
قال النبي ﷺ:
"اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"
[رواه مسلم: 2578].
الشح هنا هو البخل الشديد الذي يدفع صاحبه إلى الفساد والإثم، فيهلك نفسه ومجتمعه.
🌺 فضل من ينفق في سبيل الله
قال تعالى:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾
[البقرة: 261]
كل درهم تُنفقه في سبيل الله بإخلاص يُثمر سبع مئة ضعف أو أكثر!
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره:
"مضاعفة الأجر في الإنفاق ترتبط بصدق النية وإخلاص القلب لله."
✍️ من روائع الشعر
يقول الشاعر الحسن بن هانئ (المعروف بأبي نواس):
إذا أنت لم تُنفق، ولم تعطِ سائلاً
فما لك في مالك من فخرٍ يُرى؟
يموت الفتى، لا تبقى الأموالُ
ولا يبقى إلا الصدق والعملُ التُقى
💬 تأمل معي
قد تظن أن التهلكة في بذل المال، لكن ماذا لو كانت في التعلق به؟
وماذا لو كان الإنفاق في الجهاد، العلم، أو الصدقة هو سبيل البقاء لا الفناء؟
🔍 فاسأل نفسك:
هل أنفق كما أمرني ربي، سواء في مالي أو علمي أو جهدي؟
أم أنني أؤخر العطاء بانتظار "الوقت المناسب"؟
أخبرني... مت ى كانت آخر مرة أنفقت فيها في سبيل الله بقلبٍ مخلص، سواء بالمال أو بالعمل الصالح؟